المدير العام للإيسيسكو يشارك ببحث في مؤتمر إسلامي بالقاهرة حول : المؤسسات الثقافية ودورها في بناء الشخصية
19 يناير 2019
القاهرة:2019/01/19
المدير العام للإيسيسكو يشارك ببحث في مؤتمر إسلامي بالقاهرة حول : المؤسسات الثقافية ودورها في بناء الشخصية
يشارك الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري، المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة –إيسيسكو-، ببحث في الدورة التاسعة والعشرين للمؤتمر العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، الذي تنظمه وزارة الأوقاف في القاهرة، وافتتحت أعماله اليوم ويستمر يومين.
ويتناول بحث المدير العام للإيسيسكو موضوع (المؤسسات الثقافية ودورها في بناء الشخصية) الذي أوضح في مقدمته، أن بناء الشخصية عمليةً مركبةً متداخلة مندمجة في مجالات عدة، ذات محاور مختلفة، وتقتضي اجتياز مراحل متعاقبة لا يمكن تخطّيها في قفزة واحدة، موضحاً أن البناء لابـد أن يقوم على أسس ثابتة تُراعَى فيها الشروط اللازمة للسلامة والمتانة والصحة، ولا يتم البناء دفعةً واحدةً في طفرة عشوائية، وإنما يقوم البناء على القواعد التي تُعدُّ إعداداً جيّداً ومناسباً، مشيراً إلى أن هذه الشروط إذا كانت هي مستلزمات للبناء الطبيعي، فإن المكوّنات الرئيسة لبناء الإنسان من النواحي كافة، التي تتكوّن منها شخصيتُه، لابد أن تكون أصلب عوداً، وأقوى تماسكاً، وأشدّ تأثيراً في نموّ الشخص المستهدف، لأن الشخصية، في المفهوم العام، هي حاصلُ جمعِ كلّ الاستعدادات، والميول، والغرائز، والدوافع، والقوى البيولوجية الموروثة، وكذلك الصفات والميول المكتسبة.
وبـيَّـن أن من المنظور الإسلامي لابد أن تُضاف إلى هذه المواصفات والاستعدادات التي هي مكوّنات الشخصية، القيمُ الدينية، والمنظومة الأخلاقية، وأنماط السلوك التي لا تحيد عن هذه المقوّمات والثوابت جميعاً، باعتبار أن الشخصية السوية المبنية على أساس سليم، لا تستقيم إلاَّ بصحيح الدين، ولا تنضج إلاَّ بالتديّن المعتدل، ولا تتقوَّى وتمتلك المناعة إلاَّ بمكارم الأخلاق البانية للعقل، وللجسم، وللوجدان، وللضمير، وللإحساس الداخلي بالمسؤولية تجاه الذات، وحيال المجتمع، وإزاء الإنسانية جمعاء.
وأشار البحث إلى أن بناء هذه الشخصية المنسجمة مع محيطها، المعتدلة في تكوينها، السوّية في طبيعتها، إذا كان يقوم على أساس التربية والتعليم، فإنَّ للثقافة دوراً بالغ التأثير في صياغة هذه الشخصية وفقاً للقيم المثلى، والمبادئ السامية، والأهداف الإنسانية النبيلة. فبقدرما تكون المسالك إلى الثقافة ممهدة، والمسارات نحو تحصيلها معبّدة، وتكون الوسائل لاكتسابها ميسرة، والإمكانات للحصول عليها متاحة، تكتسب الثقافة، بمفهومها العام وبمدلولها الواسع، الأهميةَ البالغةَ باعتبارها من الركائز القوية التي تنبني عليها الشخصية، لافـتـاً إلى أن توفير الظروف المناسبة لاكتساب القيم الثقافية، وللاستـفادة منها والانتفاع بها والاغتراف من منابعها في مراحل التنشئة والتكوين الأولى، ثم صعوداً إلى جميع المراحل التعليمية، وتمشّياً مع مختلف الفترات العمرية، من شأنه أن يكون له التأثيرُ النافذُ والقويُّ على شخصية الفرد من النواحي كافة، وعلى طبيعة المجتمع، بصورة عامة.
وجاء في البحث أن البناء السليم للشخصية الإنسانية هو الذي ينحو منحى الاعتدال والوسطية في التكوين والتعليم، وفي التقويم والتهذيب. فالشخصية السوية والقويمة والقوية لا تُبنَى بالتطرف والتشدّد والتعصّب والغلوّ. ففي مثل هذه الحالة يكون البناء هشاً، متهاوياً، آيلاً للسقوط، لأنه يفتقد القوة والمتانة والمناعة.
ولـفـت إلى أن المؤسسات الثقافية بشكل عام، هي أجهزة متخصصة يمارس القائمون عليها العمل الثقافي العام الذي يغطي مجالات متنوعة عـدة، ويهدف بالدرجة الأولى، إلى خدمة المصلحة العامة، بصورة إجمالية، خدمات تدخل ضمن اختصاص هذه المؤسسات، ويعمل على إنعاش الثقافة والترويج لها ونشر القيم الثقافية الراقية التي تغذي العقول، وتهذب النفوس، وتصقل الأذواق في المجتمعات التي تنتمي إليها، أو في نطاق أوسع قد يشمل المحيط الضيق، أو المنطقة، أو الإقليم، أو القارة، ولربما يشمل العالم أجمع.
وأشار إلى أن الأدوار التي تقوم بها المؤسسات الثقافية قد يكون فيها ما يقترب، في بعض مناحيه، من المهام التي تنهض بها المؤسسات التعليمية بصورة عامة، بحكم أن الرسالة الثقافية، في عمقها وجوهرها وفي أبعادها التربوية، هي التي تجمع بين المؤسسات جميعاً، فالمدارس والمعاهد والجامعات تخدم الأهداف الثقافية العامة، بقدرما تعمل لتحقيق الأهداف التعليمية والتربوية والأخلاقية والتكوينية والعلمية والتِقانية، على اعتبار أن القواسم المشتركة الجامعة بين هذه المؤسسات، تصبُّ في نهاية المطاف، في بناء الشخصية المتكاملة الجامعة لعناصر التكوين، والسوّية في توجّهاتها وميولها، وفي نظرتها إلى الحياة، وفي تعاملها مع مجتمعها ومع المحيط الإنساني الواسع.
وذكر البحث أن المؤسسات الثقافية لا تكون ذات مردودية إيجابية وفعالية نافعة، إلا إذا كانت مبنيةً على أسس ثابتة، وتتوفر على برامج ثقافية مفيدة، وتعمل وفق خريطة طريق واضحة رسمها الخبراء، ويقوم عليها ذوو العلم والخبرة والمعرفة والرؤية إلى إصلاح الأفراد والجماعات، من المؤمنين برسالة الثقافة، والملتزمين بالوسائل المجدية والأساليب المناسبة، لإيصال مضامين العمل الثقافي إلى القاعدة العريضة من الناس. بحيث يكون بناء الشخصية الوطنية من خلال هذا المنظور الحضاري، هو الهدف الرئيس الذي من أجله أُنشئت تلك المؤسسات.
وأكد أن قوام الشخصية السوّية هو الاستقرار، والتوازن، والسكينة، والاعتدال، والوسطية في المعتقدات والعبادات وأنماط السلوك، والمناعة ضد المؤثرات السلبية الخارجية، والقدرة على التجاوب مع المستجدات مع الفهم السليم للدواعي وللأسباب، فبذلك تنجو الشخصية من أعراض الضعف والهشاشة والهزال، مثل الاهتزاز عند الصدمات، والانهيار حين مواجهة الأزمات، والاندفاع في الأحوال التي تتطلب الرزانة، والتأنّي، والتريث، وإعمال الفكر قبل اتخاذ القرار، واعتماد الرؤية العلمية إلى الأشخاص والأشياء والأحداث والمتغيّرات، لتجاوز الحالات الارتجالية، ولتجنّب السقوط في المزالق، وللتغلّب على الصعوبات التي تعتـرض طريق المرء نحو القصد النبيل والشريف الذي يسعى إليه. فالثقافة إذن، وبهذه المعاني العميقة، وسيلةٌ من إحدى الوسائل الفعالة لبناء الشخصية بالمواصفات التي استعرضنا بعضاً منها.
وربط المدير العام للإيسيسكو في بحثه الذي شارك به في المؤتمر، بين المؤسسات الثقافية وبين الواقع المعاصر، فقال : (في زماننا هذا حيث تَصَاعَدَتِ موجات العنف والتطرف، واتسعت رقعة الإرهاب، بكل أشكاله، الذي يتخذ من الدين الحنيف شعاراً يرفعه، ودثاراً يتسـتّر به، تَـتَـعَاظَمُ أهمية إعادة بناء الشخصية للأفراد وللجماعات، بطـرق علمية، وبأساليب حديثة، ومن خلال رؤية تَـتَـدَاخَلُ فيها الجوانب كافـة، الدينية، والثقافية، والأخلاقية، والاقتصادية، والاجتماعية، والقانونية، والأمنية، وذلك لمواجهة تيارات الهدم والتخريب، وأدوات التفريغ والتشويه التي تنخر في جسم المجتمع العربي والإسلامي وتضعف قواه، وتكسر شوكته. فالشخصية الوطنية القوية الواعية الجامعة لتلك المواصفات التي ألمعنا إليها، هي العاصم الواقي اليومَ من الوقوع في مستنقع التطرف الذي يفضي إلى الإرهاب وما يجلبه معه من خراب ودمار وبؤس وهوان وكوارث اجتماعية لا حصر لها).
وأشار إلى أن المؤسسات الثقافية بجميع تصنيفاتها ودرجاتها ومستوياتها، تساهم في الحفاظ على أمن المجتمع، وفي صدّ المخاطر عنه، وفي تقـوية المناعة الذاتية والموضوعية لأفراد المجتمع على وجه الإجمال. وهو ما يعمّق ويؤصّل مفهومَ المواطنة التي صارت اليومَ من المفاهيم الحديثة لعلم الاجتماع السياسي المعاصر.
وأبرز أن بناء الشخصية السوّية هو تفعيلٌ للمواطنة، بحيث تتشبّع الشخصية بروح الوطن، وتعتنق قيمَه وثوابتَـه، فتكون شخصية مواطنة. وعلى تعدّد المدارس الاجتماعية والسياسية التي تفسر المواطنة، فإن أقرب تفسير لها إلى القارئ العادي غير المتخصص في العلوم الاجتماعية والسياسية، هي أنها (حب الوطن)، أي أن يكون الوطن في قلب المواطن، يخلص له الإخلاص كلَّه الذي لا تشوبه شائـبة، ويحافظ على مصلحته فلا يفرط فيها، ويعمل على حمايته من الأخطار جميعاً، ويسعى جهده لخدمته والنهوض به. فإذا كانت الوطنية من الانتماء إلى الوطن، فإن المواطنة هي تعزيزٌ لهذا الانتماء حتى يكون المواطن منصهراً في الوطن، فكأنه صورة منه ومثال له.
وأوضح أن في هذا المجال الحيوي يتمركز الدور الذي تقوم به المؤسسات الثقافية، لإشاعة روح المواطنة في المجتمع، ولتعميق الوعي بها في نفس المواطن، ولبناء الشخصية على أساسها حتى تكون، وكما أسلفنا، شخصيةً عصريةً متفتحةً على آفاق عصرها، مواكبةً للمستجدات في المجالات الحيوية، مدركةً وواعيةً بالتهديدات التي تأتي من التطرف بكل أشكاله، في التربية والتعليم، وفي التكوين والتنشئة، وفي التثقيف والتوجيه، وفي المسالك التي يسلكها المواطن في حياته، وبيَّـن أن هذه الشخصية المواطنة هي النموذج الأرقى لما نهدف إليه من بناء الفرد والمجتمع، على القيم الدينية، وعلى المنظومة الأخلاقية، وعلى الرؤية العلمية، وعلى المواطنة بمفهومها المتفتح الذي لا يَـتَـعَارَضُ مع الرؤية الحضارية الإسلامية إلى الأفراد والجماعات والمجتمعات جميعاً.
ولـفـت إلى أن الشخصية التي تُبنى على هذه الأسس الراسخة، وتُصاغ بهذه المفاهيم السليمة، وينظر إليها بهذه الرؤية الحضارية الشاملة، تحمِلُ المسؤولية، وتسعى إلى الاندماج في الأسرة الإنسانية، والنهوض بأمانة التكليف، والوفاء بهذه الأمانة إلى أقصى حد.
وخـلـص الدكتور عبد العزيز التويجري في بحثه إلى القول إن المؤسسات الثقافية التي تتبنَّى الثقافة البانية ذات الأهداف الإنسانية الراقية، تبني الشخصية التي تتمتع باستقلال الإرادة وباستقلال الرأي والفكر، وتمتلك القدرة على اتخاذ المبادرة لتغيير ما بنفسها من نقصٍ وعجزٍ، حتى يتغيّر المجتمع ويتقدم ويزدهر ويستقر.